تاريخ المصحف
أول ما نزل من القرآن الكريم 

اختلف العلماء في أول ما نزل من القرآن الكريم على أقوال :
أولها : وهو الصحيح : ( اقرأ باسم ربك .. ) الآية ، إلى قوله : ( ما لم يعلم ) ، وهو ما رواه البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة .
الثاني : ( يا أيها المدثر ) . والظاهر أن "سورة المدثر "نزلت بكمالها قبل نزول تمام "سورة أقرأ "التي نزل منها صدرها أولاً . وعبّر بعض العلماء للتوفيق بين الرأيين الاول و الثاني بقولهم : أول ما نزل للنبّوة ( اقرأ باسم ربّك ) وأول ما نزل للرسالة ( يا أيها المدثر ) .
الثالث : ( الفاتحة ) 
الرابع : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) .
وقد روى الشيخان عن أم المؤمنين عائشة : أن أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام .
وعن علي بن الحسين : أول سورة نزلت بمكة ( اقرأ باسم ربك ... ) وآخر سورة نزلت بها "المؤمنون "، ويقال العنكبوت . وأول سورة نزلت بالمدينة ( ويلٌ للمطففين ) ، وآخر سورة نزلت "براءة ". وأول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة "النّجم"
وفي شرح البخاري لابن حجر : اتفقوا على أن "سورة البقرة "أول سورة نزلت بالمدينة
وفي تفسير النسفي عن الواقدي أن أول سورة نزلت بالمدينة "سورة القدر ". 

آخر ما نزل من القرآن الكريم 
وفيه اختلاف كذلك ، روى الشيخان عن البراء بن عازب قال : آخر آية نزلت : ( يستفتونك قل الله يُفتيكم في الكلالة ... ) الآية . وآخر سورة نزلت "براءة ".
وعن ابن عباس قال : آخر آية نزلت آية الربا ، والمراد بها قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ... ) ( البقرة : 278- 280 ) 
وعن ابن عباس قال : آخر شيء نزل من القرآن ( واتقوا يومًا ترجعون فيه ... ) ( البقرة :( 281 ) . 
ولا منافاة بين هذه الروايات في "آية الربا "و ( اتقوا يومًا .... ) و "آية الدين "، لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف ، ولأنها في قصة واحدة ، فأخبر كلٌّ عن بعض ما نزل بأنه آخر ، وذلك صحيح .
وعن أبيّ بن كعب قال : "آخر آية نزلت ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم .. ) ( التوبة : 128-129 ) إلى آخر السورة .
وعن عائشة : [ آخر سورة نزلت "المائدة "فما وجدتم فيها من حلال فساتحلوه .. ] ( أخرجه الحاكم والترمذي ) .
وقال القاضي أبوبكر ، في كتابه "الانتصار ": "هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكُلٌّ قاله بضرب من الاجتهاد وغَلبَة الظن ، ويُحتمل أن كلا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه ، أو قبل مرضه بقليل ، وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو ".
ومن المشكل على ما تقدم قوله : ( اليوم أكملتُ لكم دينكم .... ) ( النساء : 176 ) الآية ، فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع ، وظاهرها إكمال جميع الفرائض والأحكام قبلها ، وقد صرّح بذلك جماعة منهم : السُّدى فقال : "لم ينزل بعدها حلال ولا حرام "مع أنه ورد في آية "الربا "و "الدّين "و "الكلالة "أنها نزلت بعد ذلك ، وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال : "الأوْلى أن يُتأوّل على أنه أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام ، وإجلاء المشركين عنه حتى حجة المسلمون لا يخالطهم المشركون ". 
وفيه اختلاف كذلك ، روى الشيخان عن البراء بن عازب قال : آخر آية نزلت : ( يستفتونك قل الله يُفتيكم في الكلالة ... ) الآية . وآخر سورة نزلت "براءة ".
وعن ابن عباس قال : آخر آية نزلت آية الربا ، والمراد بها قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ... ) ( البقرة : 278- 280 ) 
وعن ابن عباس قال : آخر شيء نزل من القرآن ( واتقوا يومًا ترجعون فيه ... ) ( البقرة :( 281 ) . 
ولا منافاة بين هذه الروايات في "آية الربا "و ( اتقوا يومًا .... ) و "آية الدين "، لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف ، ولأنها في قصة واحدة ، فأخبر كلٌّ عن بعض ما نزل بأنه آخر ، وذلك صحيح .
وعن أبيّ بن كعب قال : "آخر آية نزلت ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم .. ) ( التوبة : 128-129 ) إلى آخر السورة .
وعن عائشة : [ آخر سورة نزلت "المائدة "فما وجدتم فيها من حلال فساتحلوه .. ] ( أخرجه الحاكم والترمذي ) .
وقال القاضي أبوبكر ، في كتابه "الانتصار ": "هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكُلٌّ قاله بضرب من الاجتهاد وغَلبَة الظن ، ويُحتمل أن كلا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه ، أو قبل مرضه بقليل ، وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو ".
ومن المشكل على ما تقدم قوله : ( اليوم أكملتُ لكم دينكم .... ) ( النساء : 176 ) الآية ، فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع ، وظاهرها إكمال جميع الفرائض والأحكام قبلها ، وقد صرّح بذلك جماعة منهم : السُّدى فقال : "لم ينزل بعدها حلال ولا حرام "مع أنه ورد في آية "الربا "و "الدّين "و "الكلالة "أنها نزلت بعد ذلك ، وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال : "الأوْلى أن يُتأوّل على أنه أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام ، وإجلاء المشركين عنه حتى حجة المسلمون لا يخالطهم المشركون ". 

جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق

جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه سببه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ارتدت بعض قبائل العرب فأرسل أبو بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش لقتال المرتدين ، وكان قوام هذه ا لجيوش هم الصحابة رضوان الله عليهم وفيهم حُفاظ القرآن ، وكانت حروب الردة شديدة قتل فيها عدد من القراء الذي يحفظون القرآن الكريم ، فخشي بعض الصحابة أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حفظته ، فأراد أن يجمع القرآن في مصحف واحد بمحضر من الصحابة . وقصة ذلك رواها البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال : ( أرسل إليّ أبو بكر - مقتل أهل اليمامة - فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي الله عنه : إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقرآء القرآن ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقرآء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرى ، قلت لعمر : كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عمر : هذا والله خير ، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر ، قال زيد : قال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن . فاجمعه ، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن ، قلت : كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : هو والله خير ، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أ حد غيره ، ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم ) حتى خاتمة براءة ، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه . تاريخ هذا الجمع : هو كما جاء في الحديث بعد معركة اليمامة ، وفي السنة الثانية عشر من الهجرة . أسباب اختيار زيد بن ثابت رضي الله عنه لهذا الجمع : 1. أنه كان من حُفاظ القرآن الكريم . 2. أنه شهد العرضة الأخيرة للقرآن الكريم ، وقد روى البغوي عن أبي عبد ا لرحمن السلمي أنه قال : قرأ زيد بن ثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين إلى أن قال عن زيد بن ثابت أنه ( شهد العرضة الأخيرة ، وكان يُقرىء الناس بها حتى مات ، ولذلك اعتمده ابو بكر وعمر في جمعه ، وولاه عثمان كتْبة المصاحف رضي الله عنهم أجمعين ) . 3. أنه من كُتّاب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم . 4. خصوبة عقله ، وشدة ورعه ، وكما خلقه ، واستقامة دينه ، وعظم أمانته وشهد لذلك قول أبي بكر رضي الله عنه له : ( إنك رجل شاب ، عاقل ، لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) وقوله نفسه رضي الله عنه ( فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن ) . منهج زيد في الجمع : من المعلوم أن زيد بن ثابت رضي الله عنه كان يحفظ القرآن كله في صدره وكان القرآن مكتوباً عنده ومع هذا فلم يعتمد على ما حفظه ولا على ما كتب بيده وذلك أن عمله ليس جمع القرآن فحسب ، وإنما التوثيق والتثبت فيما يكتب ولهذا يقول الزركشي رحمه الله تعالى عن زيد : (وتتبعه للرجال كان للإستظهار لا لاستحداث العلم ) . وقال ابن حجر رحمه الله تعالى : ( وفائدة التتبع المبالغة في الاستظهار والوقوف عند ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ) . وقد رسم أبو بكر - رضي الله عنه - لزيد المنهج لهذا الجمع فقال له ولعمر بن الخطاب رضي الله عنه ( اقعدوا على باب المسجد ، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه ). (اسناده منقطع 1 ص169) . وقد امتثلا ذلك فقد قام عمر في الناس فقال : ( من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأتنا به ) (اسناده منقطع - السابق 182) . وقد بيّن زيدُ نفسه المنهج الذي سلكه بقوله رضي الله عنه : (فتتبعت القرآن أجمعه من : الصحف والعسب واللخاف وصدور الرجال ) (وراه البخاري) . وعلى هذا فإنّ منهج زيد في جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه يقوم على أُسس أربعة : الأول : ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم . الثاني : ما كان محفوظاً في صدور الرجال . الثالث : أن لا يقبل شيئاً من المكتوب حتى يشهد شاهدان على أنه كُتب بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال السخاوي ( معناه :من جاءكم بشاهدين على شيء من كتاب الله الذي كتب بين يدي رسول الله صلى ا لله عليه وسلم ) . وقال ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى : ( وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ ) . الرابع : أن لا يقبل من صدور الرجال إلا ما تلقوه من فم الرسول صلى الله عليه وسلم فإن عمر رضي الله عنه ينادي : (من كان تلقى من رسول ا لله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأتنا به ) . ولم يقل من حفظ شيئاً من القرآن فليأتنا به . مميزات جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه : 1. جمع القرآن الكريم في هذا العهد على أدق وجوه البحث والتحري والإتقان على الوجه الذي أشرنا إليه في منهج الجمع . 2. أهمل في هذا الجمع ما نُسخت تلاوته من الآيات . 3. أن هذا ا لجمع كان بالأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن الكريم كما كان في الرقاع التي كتبت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم . 4. أن هذا الجمع كان مرتب الآيات باتفاق واختلف العلماء في السور هل كانت مرتبة في هذا الجمع أم أن ترتيبها كان في عهد عثمان رضي الله عنه ؟ . 5. اتفق العلماء على أنه كُتب نسخة واحدة من القرآن في هذا الجمع حفظها أبو بكر باعتباره إمام المسلمين . 6. ظفر هذا الجمع بإجماع الأمة عليه وتواتر ما فيه . مكانة هذا الجمع : ظفر هذا الجمع باتفاق الصحابة رضي الله عنهم على صحته ودقته وأجمعوا على سلامته من الزيادة أو النقصان وتلقوه بالقبول والعناية التي يستحقها حتى قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ( أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر فإنه أول من جمع ما بين اللوحين ) . (اسناده حسن). تسميتة المصحف : لم يكن (المصحف) يُطلق على القرآن قبل جمع أبي بكر الصديق رضي الله عنه وإنما عُرف هذا الاسم بعد أن أتم زيد جمع القرآن . فقد روى السيوطي عن ابن أشته في كتابه (المصاحف) أنه قال : ( لما جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر : التمسوا له إسماً . فقال بعضهم السّفر ، وقال بعضهم : المصحف فإنّ الحبشة يسمونه المصحف . وكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وأسماه المصحف ) . خبر هذا المصحف : بعد أن أتّم زيد جمع القرآن في المصحف سلمه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فحفظه عنده حتى وفاته ، ثم انتقل إلى أمير المؤمنين من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وبعد وفاته انتقل المصحف إلى حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها ، لأن عمر رضي الله عنه جعل أمر الخلافة من بعده شورى ، فبقي عند حفصة إلى أن طلبه منها عثمان رضي الله عنه لنسخه بعد ذلك ثم أعاده إليها - لما سيأتي - ولما توفيت حفصة رضي الله عنها أرسل مروان بن الحكم إلى أخيها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ساعة رجعوا من جنازة حفصة بعزيمة ليُرسلن بها فأرسل بها ابنُ عمر إلى مروان فمزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك خلاف ما نسخ عثمان رضي الله عنه 
جمع القرآن ( نَسْخُهُ ) في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه 
سببه 
عندما اتسعت الفتوحات الإسلامية انتشر الصحابة رضي الله عنهم في البلاد المفتوحة يعلمون أهلها القرآن وأمور الدين وكان كل صحابي يُعلَّمُ بالحرف الذي تلقاه من الأحرف السبعة فكان أهل الشام يقرأون بقراءة أبي بن كعب رضي الله عنه ، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق ، وإذا أهل العراق يقرأون بقراءة عبد الله بن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهلُ الشام فيُكفر بعضهم بعضاً . 
وعندما اتجه جيش المسلمين لفتح (أرمينيه) و(اذربيجان) وكان الجنود من أهل العراق وأهل الشام فكان الشقاق والنـزاع يقع بينهم ورأى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه اختلافهم في القراءة وبعض ذلك مشوب باللحن مع إلف كل منهم لقراءته واعتياده عليها واعتقاده أنها الصواب وما عداها تحريف وضلال حتى كفر بعضهم بعضاً فأفزع هذا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقال والله لأركبن إلى أمير المؤمنين (يعني عثمان بن عفان رضي الله عنه ) وكان عثمان قد رأى نحو هذا في المدينة فقد كان المُعلم يُعلم بقراءة والمعلم الآخر يعلم بقراءة فجعل الصبيان يلتقون فينكر بعضهم قراءة الآخر فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فقام خطيباً وقال : ( أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافاً وأشد لحناً ، اجتمعوا يا أصحاب محمد ، واكتبوا للناس إماما) . 
فلمّا جاء حذيفة إلى عثمان رضي الله عنهما وأخبره بما تحقق عند عثمان ما توقعه ، وقد روى البخاري في صحيحه قصة ذلك الجمع في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يُغازي أهل الشام في فتح (أرمينيه) و(أذربيجان) مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ) . 

تاريخ هذا الجمع : 
كان ذلك في أواخر سنة 24 وأوائل سنة 25 كما قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى . 

فكرة الجمع : 
لما سمع عثمان رضي الله عنه ما سمع وأخبره حذيفة رضي الله عنه بما رأى استشار الصحابة فيما يفعل ، فقد روى إبن أبي داود بإسناد صحيح - كما يقول ابن حجر - من طريق سويد بن غفلة قال، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ( يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان ولا تقولوا له إلا خيراً في المصاحف .. فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منّا جميعا ، قال ما تقولون في هذه القراءة ؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك ، وهذا يكاد أن يكون كفراً ، قلنا : فما ترى ؟ قال : نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا يكون اختلاف . قلنا : فنعم ما رأيت .. قال علي : والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل ) . 

اللجنة المختارة : 
اختار عثمان رضي الله عنه أربعة لنسخ المصاحف هم : 
زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث ابن هشام ، وهؤلاء الثلاثة من قريش . 
فقد سأل عثمان رضي الله عنه الصحابة : من أكتب الناس ؟ قالوا : كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت قال : فأي الناس أعرب ؟ وفي رواية أفصح . قالوا : سعيد بن العاص ، قال عثمان : فليُمل سعيد ، وليكتب زيد . 

المنهج في هذا الجمع : 
بعد أن اتفق عثمان مع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين على جمع القرآن على حرف سلك منهجاً فريداً وطريقاً سليماً أجمعت الأمة على سلامته ودقته . 
1. فبدأ عثمان رضي الله عنه بأن خطب في الناس فقال : ( أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن وتقولون (قراءة أبي) (قراءة عبد الله ) يقول الرجل ( والله ما تقيم قراءتك ) !! فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به ، وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن حتى جمع من ذلك كثرة ، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلاً فناشدهم ، لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملاه عليك ؟ فيقول نعم ) . 
2. وأرسل عثمان رضي الله عنه إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهما أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نعيدها إليك ، فأرسلت بها إليه ، ومن المعلوم أن هذه الصحف هي التي جمعت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه على أدق وجوه البحث والتحري . 
3. ثم دفع ذلك إلى زيد بن ثابت والقرشيين الثلاثة وأمرهم بنسخ مصاحف منها وقال عثمان القرشيين : ( إ ذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم ) 
4. إذا تواتر في آية أكثر من قراءة تكتب الآية خالية من أيّة علامة تقصُر النطق بها على قراءة واحدة فتكتب برسم واحد يحتمل القراءتين أو القراءات فيها جميعاً مثل : 
أ. (فتبينوا) التي قرأت أيضاً فتثبتوا . 
ب. (ننشزها) قُرأت أيضاً ننشرها . 
أما إذا لم يكن رسمها بحيث تحتمل القراءات فيها فتكتب في بعض المصاحف برسم يدل على قراءة ، وفي مصاحف أخرى برسم يدل على القراءة الأخرى مثل : 
أ . (ووصى بها إبراهيم) هكذا تكتب في بعض المصاحف وفي بعضها وأوصى . 
ب . (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) بواو قبل السين في بعض المصاحف وفي بعضها بحذف الواو . 
وبعد الفراغ من نسخ المصاحف بعث عثمان بنسخ منها إلى الأمصار الإسلامية حيث نشط المسلمون في نسخ مصاحف منها للأفراد وكان زيد بن ثابت في المدينة يتفرغ في رمضان من كل سنة لعرض المصاحف فيعرضون مصاحفهم عليه وبين يديه مصحف أهل المدينة . 

مزايا جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه : 
تميز هذا الجمع بمزايا عديدة منها : 
1. الاقتصار على حرف واحد من الأحرف السبعة ، قال ابن القيم رحمه الله : ( جمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي أطلق لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة بها لما كان ذلك مصلحة ) . 
2. إهمال ما نسخت تلاوته : 
فقد كان قصد عثمان رضي الله عنه جمع الناس على مصحف لا تقديم فيه ولا تأخير ولا تأويل أُثْبِتَ مع تنـزيل ، ولا منسوخ تلاوته كُتب مع مُثبتٍ رسمه ، ومفروض قراءته وحفظه ، خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعده . 
3. الاقتصار على ما ثبت في العرضة الأخيرة وإهمال ما عداه : 
فقد روى ابن أبي داود في المصاحف عن محمد بن سيرين عن كثير بن أفلح قال : لمّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثنى عشر رجلاً من قريش والأنصار فيهم أبي بن كعب ، وزيد بن ثابت قال فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجئ بها ، قال وكان عثمان يتعاهدهم فكانوا إذا تدارأو في شيء أخروه ، قال محمد : فقلت لكثير وكان منهم فيمن يكتب : هل تدرون لم كانوا يؤخرونه ؟ قال : لا ، قال محمد : فظننت ظناً إنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهداً بالعرضة الأخيرة فيكتبونها على قوله . 
4. الاقتصار على القراءات الثابتة المعروفة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وإلغاء ما لم يثبت . 
5. كان مرتب الآيات والسور على الموجه المعروف الآن ، قال الحاكم في ا لمستدرك : ( إن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة ، فقد جُمع بعضه بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم جمع بعضه بحضرة أبي بكر ال صديق ، والجمع الثالث هو في ترتيب السور وكان في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين ) . 
الفروق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما : 
كان معنى (الجمع) ظاهراً في جمع القرآن في عهد أبي بكر فقد كان القرآن مفرقاً فأمر بجمعه كما قال المحاسبي : ( كان ذلك بمنـزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها القرآن منتشر ، فجمعها جامع ، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء ) . 
إذا فمعنى الجمع فيه ظاهر لا يحتاج إلى تفريق بينه وبين الجمع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكن الإشكال واللبس هو في الجمعين الثاني والثالث ، إذ كيف يأمر عثمان بجمع القرآن وهو مجموع في عهد أبي بكر رضي الله عنهما ؟ ولذا فإن العلماء يولون التفريق بين جمع القرآن في عهد أبي بكر وجمعه في عهد عثمان عنايتهم لإزالة هذا اللبس ، ويذكرون فروقاً : 
قال القاضي أبو بكر في الانتصار : ( لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع القرآن بين لوحين وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإلغاء ما ليس كذلك ) وقال ابن التين وغيره : (الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته لأنه لم يكن مجموعاً في أي موضع واحد فجمعه في صحائف مرتباً لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم وجمع عثمان كان لما كثُر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرءوه بلغاتهم على اتساع اللغات فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئه بعض فخشي من تفاقم الأمر في ذلك فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسوره ، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجاً بأنه نـزل بلغتهم . 
ومن هذين النصين نستطيع أن نستخلص أهم الفروق وهي : 
1. أنّ الباعث لجمع القرآن في عهد أبي بكر خشية أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حفظته وذلك حين استحر القتل بالقراء في حروب الردة ، أما جمعه في عهد عثمان فلكثرة الاختلاف في وجوه القراءة . 
2. أنّ جمع أبي بكر على الأحرف السبعة ، أما جمعه في عهد عثمان فقد كان على حرف واحد . 
3. أن جمع أبي بكر كان مرتب الآيات ، أما جمع عثمان فقد كان مرتب الآيات والسور . 
إنفاذ المصاحف : 
بعد أن أتمّت اللجنة نسخ المصاحف أنفذ عثمان إلى آفاق الإسلام ينسخ منها وأرسل مع كل مصحف من يوافق قراءته فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني وبعث عبد الله بن السائب مع المكي والمغيرة بن شهاب مع الشامي وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي وعامر بن عبد القيس مع البصري وتلقى التابعون في كل قطر قراءة إمامهم وتفرغ قوم منهم لضبط القراءات حتى صاروا أئمة يُرحل إليهم .

المكيُّ والمدنيُّ 
لم ينـزل القرآن الكريم جملة واحدة ، وإنما نزل منجمًا - على دفعات - آيات وسُورًا في ثلاث وعشرين سنة ، منها ما نزل قبل الهجرة ، في مكة المكرمة ومنها ما نزل بعد الهجرة في المدينة المنورة ، وبعض السُّور أو الآيات نزلت في غزواته صلى الله عليه وسلم لا في مكة ولا في المدينة كسورة "الفتح" نزلت بين مكة والمدينة في شأن الحديبية ، ومن القرآن ما نزل في الليل ، ومنه ما نزل في النهار . 
والفرق بين المكي والمدني تبع للفرق بين الفترتين ، فالأولى كانت فترة دعوة تحتاج إلى تثبيت العقيدة وتبيان أركان الإيمان ، والثانية كانت فترة بناء المجتمع والدولة المسلمة ، وهي فترة تحتاج إلى تشريع وتنظيم . ومن الملاحظ قصر الآيات المكية وتلاحقها ربما لحاجة المسلم إلى حفظها خفية وهو يعيش حالة الضعف والخوف من أذى المشركين ، بينما الآيات المدنية أطول ، وقد أصبحت السلطة في المدينة بيد المسلمين يأمنون على أنفسهم ويملكون حرية الحركة . 
وقد ذهب العلماء في تعريفهم للمكي والمدني على ثلاثة مذاهب : 
الأول : وهو أرجح الأقوال ، أن المكيّ ما نزل قبل الهجرة ،والمدني ما نزل بعدها ، سواء نزل بمكة ، أم بالمدينة ، أم بسفر من الأسفار . فعن أبن عباس قال : "كانت إذا نزلت فاتحة سور ة بمكة كتبت بمكة ، ثم يزيد الله فيها ما يشاء "ولذلك لا يلزم من نزول آية أو آيات من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكيّة . ففي بعض السور التي نزلت بمكة آيات نزلت بالمدينة فأُلحقت بها . وكل من المكيّ والمدنيّ فيه آيات مستثناه .
الثاني : أن المكيّ ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة ، والمدنيّ ما نزل بالمدينة ، وما نزل بالسفر والغزوات لا يُطلق عليه مكي ولا مدنيّ ، كقوله : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى .... ) ( الحجرات : 13 ) ، نزلت بمكة يوم الفتح ، وقوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم ... ) ( المائدة ك 3 ) .
الثالث : أن المكي ما وقع خطاباً لأهل مكة ، والمدني ما وقع خطابًا لأهل المدينة ؛ كسورة "الممتحنة" فإنها نزلت بالمدينة مخاطبة لأهل مكة ، وقوله : ( والذين هاجروا ... ) ( النحل : 41 ) ، نزل بالمدينة مخاطبًا به أهل مكة . وأول "براءة "نزل بالمدينة لمشركي أهل مكة . ومما نزل في مكة مخاطبًا أهل المدينة قوله : ( إن الله يأمركم أن تؤدُّوا الأمانات إلى أهلها ... ) ( النساء : 85 ) .
ولمعرفة المكي والمدني طريقتان : سماعي وقياسي . فالسماعي ما وصف إلينا نزوله بإحداهما .
والقياسي : كل سورة فيها ( يا أيها الناس ) فقط ، أو ( كلاَّ ) ، أو كان أولها حروف مقطعة سوى "البقرة "و "آل عمران "و "الرعد "، أو فيه قصة آدم وإبليس سوى "البقرة "؛ فهي مكيّة .
وكل سورة فيها : قصص الأنبياء والامم السابقة : مكية . وكل سورة فيها فريضة أو حدّ فهي مدنيّة ، وكل سورة فيها ذكر للمنافقين ، سوى "العنكبوت "مدنيّة . 

من كتاب " الإتقان في علوم القرآن " مختصراً


جميع الحفوق محفوظة
2001